كان صباحًا هادئًا في مدرستي الإبتدائية، حينما سألتني المعلمة ذلك السؤال الذي طرح على جميع الأطفال في الصف الأول: ماذا تريدين أن تصبحي عندما تكبرين؟
دون تردد أو تفكير عميق، أجبتها بإيمان صادق وبراءة طفولية: أريد أن أكون طبيبة “ كان ذلك الحلم يتجسد أمامي وكأنه الخيار الوحيد في الحياة، كبرت وأنا أحمل في قلبي ذلك الأمل الطفولي، متشبثتاً به، مؤمنة بأنه الطريق الذي سأمشيه لتحقيق حلمي مرت السنوات، وكبرت الأحلام معي التحقت بالمدرسة الثانوية، وبدأت أرسم مسار حياتي المهنية، كل خطوة قريبة إلى حلمي بأن أصبح طبيبة. كنت أعتقد أن قدراتي الأكاديمية واستمراري في التحصيل العلمي سيقودني نحو هذا الطريق.
ولكن، كما يحدث غالبًا في الحياة، لم يكن كل شيء يسير كما خططت له. تقدير الله كان أعظم من تخطيطي، ففي اللحظة التي كنت أستعد فيها للإلتحاق بكلية الطب، جاءتني النتيجة التي لم أتوقعها: تم قبولي في تخصص التمريض. كانت الصدمة عظيمة، ليس لأنني كنت أرفض التمريض كليًا، بل لأنني لم أكن أتخيل نفسي يومًا في هذا المجال. كل ما عرفته عن التمريض كان سطحياً؛ كنت أظن أنه مجرد مهنة تقتصر على تقديم الرعاية الصحية الأساسية. ولكن مع مرور الأيام والأشهر، بدأت أدرك أن التمريض هو أكثر بكثير مما كنت أتصوره، لم يكن التمريض مجرد علاج للأجساد، بل هو دعم نفسي وعاطفي للمرضى، وهو مساهمة فعالة في تحسين حياتهم في أحلك لحظاتهم. كان أول عام لي في دراسة التمريض مليئًا بالتحديات. شعرت في البداية بالغربة، إذ أن الحلم الذي كنت ألاحقه لسنوات بدا وكأنه قد تبدد. لكن مع مرور الوقت، بدأت أرى الأمور من زاوية مختلفة، بدأت أكتشف جوانب جديدة من نفسي لم أكن أعلم أنها موجودة كنت أتعلم أن العطاء لا يقتصر فقط على تقديم الرعاية الجسدية، بل يشمل أيضًا العطف، الصبر، والتعاطف مع الآخرين كل يوم كنت أتعلم درسًا جديدًا في الإنسانية.
وفي لحظة ما، بدأت أرى أن التمريض ليس مجرد بديل عن حلمي القديم، بل هو طريق مختلف تمامًا يحمل في طياته فرصًا لا حصر لها لقد فتح لي التمريض آفاقًا واسعة، وأتاح لي فرصة أن أكون أكثر من مجرد مقدمة للرعاية الصحية أصبحت سفيرة في عدة جهات، واكتسبت عضويات في مؤسسات عديدة رغم أني لازلت في بداية الطريق هذه التجارب كانت بوابتي لتكوين علاقات قوية مع أشخاص في مختلف المجالات، مما وسع آفاقي المهنية والشخصية بشكل لم أكن أتوقعه ومن خلال تلك الفرص، لم أكتفِ فقط بالتعلم من الآخرين، بل أصبحت قادرة على الإبتكار، قدت عدة لجان، أصبحت سفيرة في أكثر من ثلاث جهات، بدأت اعمل على ابتكارات لتحسين التمريض أدركت أنني أستطيع أن أساهم في تغيير حياة الآخرين بطرق لم أكن أتخيلها من قبل، ولكن مع كل تلك النجاحات، ظل في قلبي هدف أعمق أدركت أن صورة التمريض في مجتمعنا ليست دائمًا إيجابية كما يجب أن تكون. هناك تصورات خاطئة حول هذه المهنة، ورأيت أن دوري لا يقتصر فقط على تقديم الرعاية، بل يجب أن أعمل على تحسين صورة التمريض، وأن أكون شخصية مؤثرة تلهم الآخرين للإنضمام إلى هذا المجال النبيل. أصبحت أبحث عن طرق لتسليط الضوء على الأثر الإيجابي الذي يمكن للتمريض أن يتركه في حياة المرضى والمجتمع ككل. كل يوم أستيقظ فيه، أدرك أن أمامي فرصة جديدة لتحقيق هذا الهدف. أؤمن أن التمريض يستحق السعي، فهو ليس مجرد مهنة، بل رسالة إنسانية عظيمة تحتاج إلى التفاني والعطاء. ومع كل طلوع شمس أجد نفسي متحمسة للعمل نحو تحسين هذه المهنة، وتغيير التصورات السلبية عنها. لقد علمني التمريض أن العطاء الحقيقي يكمن في العطف والإهتمام بالآخرين، وأن القوة لا تأتي فقط من المعرفة الأكاديمية بل من القدرة على تقديم الدعم النفسي والعاطفي لأولئك الذين هم في أمسّ الحاجة إليه. هذه المهنة جعلتني أكثر تعاطفًا مع الآخرين، وأكثر قدرة على فهم معاناتهم واحتياجاتهم. ولعل أجمل ما في التمريض هو أنه حتى عندما أخرج من إطار العمل الرسمي أجد نفسي دائمًا ممرضة في جوهري. مهما كنت بعيدة عن المستشفى أو المهام اليومية، تبقى تلك الروح العطوفة والرغبة في مساعدة الآخرين جزءًا لا يتجزأ من شخصيتي.
التمريض ليس مجرد وظيفة أمارسها بل هو أسلوب حياة علمني كيف أكون أكثر إنسانية كيف أستمع وأتعاطف، وكيف أساعد دون توقع مقابل، إن رحلتي في التمريض لم تكن كما تخيلتها في البداية لكنها كانت أكثر غنى وعمقًا مما كنت أتصور. لقد منحتني هذه المهنة الفرصة لأترك بصمة في حياة الكثيرين، وساعدتني على النمو كشخص وكقائدة.
الآن، وبعد كل هذه التجارب والنجاحات أدرك أن التمريض هو ما كنت أحتاجه طوال هذا الوقت، حتى لو لم أكن أعلم ذلك في البداية. واليوم، أواصل السعي لتحقيق أهدافي، أسعى لتحسين جودة الرعاية الصحية، ولتقديم التمريض بصورة تليق به كأحد أعظم المهن الإنسانية. أحلم بأن أكون جزءًا من الجيل الذي يغير نظرة المجتمع إلى التمريض، الذي يلهم الآخرين للإنضمام إلى هذا المجال ويسهم في تطويره. ومع كل طلوع شمس، أجد أنني أقف أمام فرصة جديدة لتحقيق هذا الهدف، أدرك أن الطريق ليس سهلًا لكنه مليء بالأمل والفرص.
التمريض علمني أن كل يوم هو بداية جديدة، فرصة للنمو والتعلم، ولإحداث تغيير إيجابي في حياة من حولي، وفي النهاية، أجنحة الأمل هي ما تحملني يومًا بعد يوم، تعلمت أن الأحلام قد تتغير، وأن المسارات التي نسلكها قد تكون مختلفة عما خططنا له، لكن الأمل هو ما يجعلنا نستمر، كل تحدٍ يواجهني في رحلتي المهنية هو فرصة جديدة لتعلم درس جديد، وكل نجاح أو إخفاق هو خطوة نحو تحقيق الهدف الأكبر فالأمل هو القوة التي تدفعنا للسعي الدائم حتى عندما تبدو الطرق غير واضحة، ومع كل يوم جديد أجد في التمريض فرصة لإعادة اكتشاف ذاتي وتحقيق أهدافي، مؤمنة أن الأمل هو المفتاح لتحقيق النجاح.